في الوقت الذي يتزايد فيه الحديث العالمي عن أزمة المناخ والاحتباس الحراري، كان من المتوقع أن تكون الاعتبارات البيئية المحرك الرئيسي لتحول المستهلكين نحو السيارات الكهربائية. غير أن استطلاعًا حديثًا كشف عن مفاجأة: أغلب مشتري السيارات الكهربائية لا يفعلون ذلك بدافع حماية البيئة أو القلق بشأن تغيّر المناخ، بل لأنهم يرون فيها وسيلة لتقليل التكاليف المرتبطة بالطاقة والوقود.هذا التحول في الدوافع يعكس تغيرًا ملموسًا في سلوك المستهلكين، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل سوق السيارات الكهربائية، و هل المشترون يهتمون بتكاليف الطاقة أكثر من المناخ و كيف يجب أن تتفاعل الحكومات والشركات مع هذا الواقع الجديد.
دوافع الشراء: الاقتصاد قبل البيئة
كشفت نتائج الاستطلاع الذي أُجري مؤخرًا وشمل آلاف المستهلكين في عدة دول، أن الغالبية العظمى من الذين قرروا اقتناء سيارات كهربائية فعلوا ذلك بسبب تكاليف التشغيل المنخفضة مقارنة بالسيارات التي تعمل بالوقود التقليدي. وتشير البيانات إلى أن:
- أكثر من 70% من المشاركين قالوا إن “تكاليف الوقود والكهرباء” كانت السبب الأساسي في قرارهم.
- فقط 23% أشاروا إلى أن “القلق البيئي والمناخي” هو الدافع الرئيسي.
- نسبة صغيرة، لا تتجاوز 7%، قالت إنها اشترت السيارة لأسباب تتعلق بالابتكار أو التصميم أو الأداء.
هذه النتائج توضح أن الاعتبارات الاقتصادية ما زالت تتفوق على القيم البيئية عندما يتعلق الأمر بقرارات المستهلك اليومية، حتى في القضايا التي ترتبط مباشرة بالمناخ.
الكهرباء أرخص من البنزين
من المعروف أن تكلفة شحن السيارة الكهربائية أقل بكثير من تكلفة تعبئة الوقود لسيارة تقليدية، خاصة في الدول التي تدعم استهلاك الطاقة النظيفة أو توفر الكهرباء بأسعار منخفضة نسبيًا. على سبيل المثال:
- في الولايات المتحدة، يبلغ متوسط تكلفة شحن السيارة الكهربائية حوالي 5 إلى 10 دولارات لكل 100 ميل، في حين أن السيارة التي تعمل بالبنزين قد تحتاج إلى 15 إلى 20 دولارًا لنفس المسافة.
- في أوروبا، حيث أسعار الوقود مرتفعة نسبيًا، يُنظر إلى السيارات الكهربائية كحل اقتصادي طويل الأمد، حتى وإن كان سعر شرائها أعلى من نظيراتها التقليدية.
وبالإضافة إلى الوقود، فإن السيارات الكهربائية تتطلب صيانة أقل. لا حاجة لتغيير الزيت، وأجزاء مثل الفرامل تدوم لفترة أطول، مما يعني تكاليف صيانة سنوية أقل بشكل عام.
البيئة في الخلفية

رغم أن السيارات الكهربائية تسهم في خفض الانبعاثات الكربونية وتُعد خيارًا بيئيًا أكثر استدامة، إلا أن هذه الحقائق لا تبدو كافية لإقناع غالبية المستهلكين الذين يبحثون عن فائدة مالية مباشرة. وهذا يشكل تحديًا للحكومات التي تبني سياساتها البيئية على افتراض أن المستهلكين سيتصرفون بدافع الواجب الأخلاقي أو القلق المناخي.
وقد أظهرت دراسات سابقة أن الإنسان العادي يميل إلى اتخاذ قرارات فورية بناءً على الفوائد القصيرة الأجل، وهو ما يفسر تفضيل التكاليف المنخفضة على التأثير البيئي طويل الأمد.
التحديات أمام الشركات
الشركات المصنعة للسيارات الكهربائية كانت تروج على مدى سنوات لهذه المركبات باعتبارها “الخيار الصديق للبيئة”. ولكن مع هذه النتائج الجديدة، قد تضطر إلى إعادة صياغة رسائلها التسويقية والتركيز على المزايا الاقتصادية.
من المتوقع أن تُكثّف الشركات إعلاناتها حول:
- وفورات الوقود على المدى الطويل.
- انخفاض تكاليف الصيانة.
- الحوافز الحكومية والإعفاءات الضريبية التي تقلل من كلفة الشراء.
- المتانة العالية والعمر الافتراضي الممتد للبطاريات.
الحكومات: دعم اقتصادي أكثر من بيئي
رغم أن هدف الحكومات من دعم السيارات الكهربائية يتمحور حول تقليل انبعاثات الكربون ومواجهة التغير المناخي، إلا أن البيانات تشير إلى أن على السياسات العامة أن تركز على دعم الأفراد من خلال توفير حوافز اقتصادية ملموسة. هذه تشمل:
- إعفاءات ضريبية عند الشراء.
- تخفيض رسوم التسجيل.
- دعم تكلفة تركيب شواحن منزلية.
- منح مالية لتحديث السيارات القديمة.
إذا استمرت الحكومات في تقديم هذا النوع من الدعم المالي المباشر، فسيكون له أثر أكبر في تسريع التحول الكهربائي مقارنة بالحملات التي تعتمد على الخطاب البيئي فقط.
السيارات الكهربائية ليست للجميع بعد
على الرغم من الجاذبية الاقتصادية للسيارات الكهربائية، لا تزال هناك عدة عقبات أمام انتشارها الواسع:
1. ارتفاع سعر الشراء الأولي
حتى مع انخفاض أسعار البطاريات، لا تزال السيارات الكهربائية أغلى من سيارات البنزين، مما يجعلها بعيدة عن متناول الكثير من المستهلكين في الدول النامية.
2. نقص البنية التحتية
في العديد من المناطق، لا تزال شبكات الشحن محدودة، خصوصًا في الأرياف. هذا يحدّ من قدرة الناس على الاعتماد على السيارات الكهربائية في حياتهم اليومية.
3. مدة الشحن الطويلة
رغم تحسن تقنيات الشحن السريع، إلا أن الكثير من المستخدمين يعتبرون انتظار عدة ساعات لشحن السيارة غير عملي مقارنة بالتزود بالوقود خلال دقائق.
المستقبل: هل تتغير الدوافع؟
مع تزايد الأزمات المناخية وارتفاع درجات الحرارة حول العالم، قد نشهد تحولًا تدريجيًا في وعي المستهلك. إلا أن هذا سيستغرق وقتًا، وسيظل الدافع المالي هو الأبرز في المدى القريب.
ولكن، يمكن القول إن ربط المصلحة الشخصية بالمصلحة البيئية هو الاستراتيجية الأكثر فاعلية. فكلما كانت السيارات الكهربائية مفيدة ماليًا للفرد، زاد استخدامها، وبالتالي قلّت الانبعاثات.
توصيات للمرحلة القادمة
انطلاقًا من نتائج هذا الاستطلاع، يمكن تقديم مجموعة من التوصيات:
- للشركات: التركيز على الوفر المالي في الحملات الإعلانية، وتوفير برامج تمويل مرنة.
- للحكومات: زيادة الحوافز الاقتصادية، وتوسيع شبكات الشحن.
- للمنظمات البيئية: مزج الرسائل الأخلاقية بالحقائق المالية، وتوعية الناس بأن حماية المناخ قد توفر لهم المال أيضًا.
- للأفراد: التفكير طويل الأمد عند شراء سيارة جديدة، وعدم الانخداع بسعر الشراء فقط دون احتساب تكاليف التشغيل.
رغم أن السيارات الكهربائية تُمثل خطوة هامة في الطريق نحو مستقبل أكثر استدامة، إلا أن دوافع المستهلكين تبقى متمحورة حول الفائدة الشخصية والمباشرة، خصوصًا من الناحية الاقتصادية. فهم هذا الواقع الجديد ليس أمرًا سلبيًا، بل هو أداة لتوجيه السياسات والاستراتيجيات نحو ما يهم الناس فعلاً، مما يسرّع وتيرة التحول ويعزز من فرص نجاحه.
وفي نهاية المطاف، سواء كان الحافز هو المال أو البيئة، فإن النتيجة واحدة: المزيد من السيارات الكهربائية على الطرقات، وانخفاض أكبر في الانبعاثات الكربونية.