في ظل التحديات البيئية التي يشهدها العالم، واتساع نطاق الحديث عن التغير المناخي، برزت الحاجة إلى حلول مبتكرة وصديقة للبيئة في قطاع النقل، الذي يُعد من أكبر مصادر انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم. وفي هذا الإطار، أصبحت السيارات الكهربائية واحدة من أبرز البدائل المستدامة، ولكن دولة واحدة تفوقت على الجميع في هذا المجال: النرويج.
تُعد النرويج اليوم الدولة التي تُباع فيها 76% من السيارات الجديدة على الأقل كمركبات كهربائية بالكامل، وهي نسبة تفوق أي بلد آخر. فما سر هذا الإنجاز؟ وكيف تحوّلت النرويج من دولة نفطية إلى نموذج عالمي في تبني السيارات الكهربائية؟
بنية تحتية متقدمة ومتكاملة لشحن المركبات
أحد العوامل الحاسمة في نجاح النرويج في تبني السيارات الكهربائية على نطاق واسع هو الاستثمار الكبير في البنية التحتية لمحطات الشحن. تتوفر في البلاد آلاف نقاط الشحن، منها السريع والعادي، موزعة بشكل مدروس في المناطق الحضرية، والضواحي، وحتى في المناطق الريفية.
الحكومة، بالتعاون مع شركات القطاع الخاص، سعت إلى إزالة القلق المرتبط بما يُعرف بـ”رهاب نفاد البطارية” (Range Anxiety)، وهو التردد الذي يشعر به السائق عند قيادة سيارة كهربائية خوفًا من عدم العثور على محطة شحن قريبة. النتيجة هي أن مستخدمي السيارات الكهربائية في النرويج لا يشعرون بأي قلق حيال المسافات الطويلة أو الحاجة المفاجئة للشحن.
الحوافز الضريبية والسياسات الحكومية المشجعة
أهم ما يُميز التجربة النرويجية في هذا المجال هو الدعم الحكومي القوي للسيارات الكهربائية. فمنذ سنوات، أقرت الحكومة مجموعة من الحوافز المادية والتسهيلات لتشجيع المواطنين على التخلي عن السيارات التقليدية وشراء السيارات الكهربائية، منها:
- إعفاء من ضريبة القيمة المضافة (VAT) التي تبلغ 25%، وهو ما يجعل السيارة الكهربائية أرخص بكثير مقارنة بالسيارات العاملة بالوقود.
- إعفاء تام أو جزئي من الرسوم الجمركية ورسوم الاستيراد.
- عدم فرض ضرائب سنوية مرتفعة على السيارات الكهربائية، بينما تتحمل السيارات العاملة بالوقود ضرائب باهظة.
- السماح للسيارات الكهربائية باستخدام ممرات الحافلات، ما يسهم في تقليل أوقات التنقل، خاصة في أوقات الذروة.
- توفير مواقف مجانية أو بأسعار رمزية للسيارات الكهربائية في المدن الكبرى.
- تخفيض أو إعفاء من رسوم الطرق والجسور والأنفاق.
كل هذه السياسات جعلت امتلاك سيارة كهربائية أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية، كما أن هذه الحوافز ساعدت في تجاوز العقبة الأكبر التي تواجه المستهلكين عادة، وهي السعر المرتفع للسيارات الكهربائية.
وعي بيئي مرتفع بين المواطنين

يُعرف الشعب النرويجي بوعيه العالي بقضايا البيئة والمناخ، وهو ما انعكس بشكل مباشر على قراراتهم الشرائية. فالنرويجيون يدركون أن التحول إلى السيارات الكهربائية هو خطوة عملية نحو تقليل انبعاثات الكربون، والحفاظ على بيئة نظيفة للأجيال القادمة.
بالإضافة إلى ذلك، يعتمد إنتاج الكهرباء في النرويج بشكل شبه كامل على مصادر متجددة، خصوصًا الطاقة الكهرومائية، مما يعني أن السيارات الكهربائية المشحونة هناك تُعتبر “نظيفة بالكامل”، مقارنة بدول أخرى تستخدم الفحم أو الغاز لتوليد الكهرباء.
دور شركات السيارات في دعم التحول
وجدت كبرى شركات تصنيع السيارات في النرويج سوقًا خصبة لاختبار وتسويق أحدث موديلاتها الكهربائية. شركات مثل “تسلا”، و”فولكسفاغن”، و”بي إم دبليو”، و”هيونداي“، و”نيسان” تنافست بقوة في السوق النرويجي لتقديم سيارات كهربائية تناسب مختلف الأذواق والميزانيات.
وبما أن العملاء في النرويج لديهم رغبة في اقتناء أحدث التقنيات، فقد أصبحت البلاد بمثابة “مختبر عالمي” لتجربة السيارات الكهربائية الجديدة. على سبيل المثال، تُعتبر “تسلا موديل Y” واحدة من أكثر السيارات مبيعًا في النرويج، وتتفوق على العديد من السيارات التقليدية من حيث الأداء والشعبية.
أهداف بيئية واضحة وطموحة
تسير النرويج بخطى ثابتة نحو تحقيق هدفها الطموح المتمثل في أن تكون جميع السيارات الجديدة المباعة في البلاد كهربائية بالكامل بحلول عام 2025. ويُعد هذا الهدف واحدًا من أكثر الأهداف طموحًا في العالم، ويعكس التزام الحكومة بمكافحة التغير المناخي وخفض الانبعاثات بنسبة كبيرة.
كما تسعى الحكومة لتشجيع استخدام وسائل النقل العام والدراجات، وتعزيز مفهوم “المدن الخالية من الكربون”، وهو ما يدعم جهود البلاد نحو مستقبل أنظف وأكثر استدامة.
تحديات رغم النجاح الكبير
على الرغم من هذا النجاح الهائل، إلا أن النرويج لا تزال تواجه مجموعة من التحديات المرتبطة بزيادة الاعتماد على السيارات الكهربائية، ومن أبرزها:
- توفير الطاقة الكهربائية اللازمة لشحن ملايين المركبات، خاصة مع تزايد الطلب.
- توسيع نطاق محطات الشحن السريع، لضمان راحة المستخدمين وتفادي الاكتظاظ في نقاط الشحن.
- التعامل مع بطاريات السيارات الكهربائية المستعملة، وضمان إعادة تدويرها بطريقة آمنة ومستدامة.
- تحقيق العدالة البيئية والاجتماعية، بحيث يستفيد جميع المواطنين، بما في ذلك ذوي الدخل المحدود، من هذا التحول.
كيف أثّرت هذه السياسات على السوق المحلي؟
تحول سوق السيارات في النرويج بشكل جذري. فخلال العقد الأخير، تراجعت مبيعات السيارات التي تعمل بالبنزين والديزل بشكل كبير، وباتت تُشكل أقل من 20% من إجمالي السوق، في حين أن السيارات الكهربائية والهجينة القابلة للشحن أصبحت هي المسيطرة.
هذا التغيير السريع أدى أيضًا إلى تحفيز الابتكار في قطاع النقل والخدمات المرتبطة به، مثل شركات الشحن، وشركات صيانة المركبات الكهربائية، وتطبيقات تتبع نقاط الشحن، وغيرها.
ماذا عن السيارات الكهربائية المستعملة؟
نظرًا للطلب الكبير على السيارات الكهربائية الجديدة، ظهرت في السوق النرويجية أيضًا سوق نشطة للسيارات الكهربائية المستعملة. وهذا يُتيح للعديد من الأشخاص من ذوي الدخل المتوسط أو المحدود فرصة لامتلاك سيارة كهربائية بأسعار معقولة. كما أن هذه السيارات غالبًا ما تكون في حالة جيدة بسبب البنية التحتية الممتازة للشحن والصيانة.
هل يمكن للدول الأخرى تكرار تجربة النرويج؟
يُعد نموذج النرويج فريدًا من نوعه، لكن يمكن استخلاص العديد من الدروس المفيدة منه. فبينما لا تستطيع كل الدول تقديم نفس مستوى الحوافز المالية، يمكنها العمل على تحسين البنية التحتية، وزيادة الوعي البيئي، وتقديم دعم موجه للفئات الأكثر احتياجًا.
دول مثل هولندا، ألمانيا، الصين، وكندا بدأت تتبع خطوات مماثلة، مع بعض التباين في النتائج حسب طبيعة الاقتصاد، وعدد السكان، ومستوى الوعي البيئي.
النرويج تقود الطريق نحو مستقبل كهربائي نظيف
إن ما حققته النرويج لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة تخطيط محكم، ودعم حكومي واضح، وتفاعل شعبي قوي. فقد جمعت النرويج بين الإرادة السياسية والابتكار الاقتصادي والوعي البيئي، لتصبح رائدة في مجال السيارات الكهربائية، وتضع نموذجًا عالميًا يُحتذى به.
وفي عالم يعاني من الاحتباس الحراري والتلوث البيئي، تُثبت تجربة النرويج أن الانتقال إلى النقل المستدام ليس حلمًا بعيدًا، بل هو خيار واقعي يمكن تحقيقه إذا توافرت الإرادة والموارد والوعي الجماعي.